سورة الأنعام - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)}
وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم الله عليه ب (الفسق) وهو ما تشرحه الآية الأخرى وتبرزه باسم مخصوص: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي ما أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 145].
إذن ف (فسقاً) معطوفة على الميتة والدم المسفوح ولحم خنزير، لكنه سبحانه فصل بين المعطوف وهو (فسقاً)؛ والمعطوف عليه بحكم يختص بالمعطوف عليه، وهذا الحكم هو الرجس وهكذا أخذت الثلاثة المحرمات حكم الرجس. وعطف عليها ما ذبح عليه اسم غير الله كالأصنام وهو قد جمع بين الرجس والفسق.
ويقول الحق: {وإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} وسبحانه يريد أن يبين لنا أن الفطرة السليمة التي لا يميلها هوى تصل إلى حقائق الخير، ولذلك نجد أن الذين يحثون ويحض بعضهم بعضا على الشر ويعلم بعضهم بخفاء إنما يأخذون مقام الشيطان بالوسوسة والتحريض على العصيان والكفر؛ لأن المسألة الفطرية تأبى هذا، وحين يرتكب إنسان موبقة من الموبقات، إنما يلف لها وبتحايل ليصل إلى ارتكاب الموبقة، وقد يوحي بذلك إلى غيره، فيدله على الفساد. ويكون بذلك في مقام الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بإعلام خفي؛ لأن الفطرة السليمة تأبى الأشياء الشريرة وتقف أيضاً فيها، ولا يجعلها تتقدم إلى الشر إلى الهوى، فإذا ما أراد شيطان من الإنس أو شيطان من الجن أن يزيّن للناس فعلاً فهو لا يعلن ذلك مباشرة. إنما يلف ويدور بكلام ملفوف مزين.
{وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وفي ذلك إشارة إلى قول المشركين: تأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتل الله وأنتم أولى أن تأكلوا مما قتل الله.
{.. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121].
وكأن مجرد الطاعة لهؤلاء المشركين لون من الشرك؛ لأن معنى العبادة امتثال وائتمار عابد لمعبود أمراً ونهياً، فإذا أخذت أمراً من غير الله فإنه يخرج بك عن صلب وقلب منهجه سبحانه وبذلك تكون قد أشركت به.
ويقول الحق بعد ذلك: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ..}.


{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(122)}
والحق سبحانه وتعالى- كما عرفنا- يعرض بعض القضايا لا عرضاً إخبارياً منه، ولكن يعرضها باستفهام؛ لأنه- جل وعلا- عليم بأنه حين يأتي لك الاستفهام، ثم تدير ذهنك لتجيب فلن تجد إلا جواباً واحداً هو ما يريده الحق. إذن فالأسلوب أحياناً يكون أسلوباً خبرياً أو يكون استفهاماً بالإثبات أو استفهاماً بالنفي. وأقواها الاستفهام بالنفي. وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن بصددها يوضح وهو العليم أنك إن أحببت أن تجيب فلن تجد إلا الجواب الذي يريده الحق.
إننا نجد في الآية الكريمة موتاً وحياة، وظلاماً ونوراً.
وما هي الحياة؟. الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة منه، وما دام الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة، وأرقى مستوى للحياة هو ما تجتمع فيه الحركة والحس والفكر، وهذه الأمور توجد كلها في الإنسان. أمّا الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده فكر. غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر الإنسان، فهو محكوم بالغريزة في أشياء وبالاختيار في أشياء، وليس لك في الغريزة عمل. لكن في مجال الاختيار لك عمل، تستطيع أن تعمله وتستطيع ألا تعمله.
إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه. وعلى هذا الاعتبار ففي الإنسان حياة، وفي الحياة حياة، وفي النبات حياة، وفي الجماد حياة، وكلما تقدم العلم يثبت لنا حيوات أشياء كثيرة جداً كنا نظن ألا حياة فيها، وإن ظهر لنا في التفاعلات أن بعض الأشياء تتحول إلى أشياء أخرى، فعلى سبيل المثال الحيوان فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه، ورمينا عظامه، كانت فيها حياة من نوع ثم صارت أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها، بدليل أنه حين يمر بعض من الزمن يتفتت العظم.
وكنا قديماً في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد، ويستمر اللبن أسبوعاً في المرقد، ويكون أحلى في يومه عن أمسه. ويزداد اللبن حلاوة كل يوم، ثم تأخذ زوجة الفلاح قطعة القشطة الأخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم. أو الزُّبد لكن بعد أن غلينا اللبن نجده يفسد بعد عدة ساعات؛ لأنك حين وضعته في المرقد، أخذته بالحياة فيه فظلت فيه حيوية حياته، لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة، فإن لم تضعه في ثلاجة لابد من أن يتعفن، ومعنى التعفن أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن، وإنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتريا وغيرها، ولا يُذهب الحياة إلا الهلاك وهو ما قاله الحق: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ..} [القصص: 88].
إذن، لا تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة، ولكنه انتقل إلى حياة ثانية.
{أوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس..} [الأنعام: 122].
كأن للإنسان حياة في ذاته، ثم جعل الحق له نوراً يمشي به. كأن الحياة متنقلة في أشياء، ويحتاج الإنسان إلى حياة، ويحتاج إلى نور تتضح به مرائي الأشياء. وكانوا قديماً يعتقدون أن الإنسان يرى حين ينتقل شعاع من عينه إلى المرئي فيراه، إلى أن جاء العربي المسلم ابن الهيثم. وقال هذا رأي جانبه الصواب في قانون الضوء، وقال: إن الإنسان يرى؛ لأن شعاعاً من المرئي يصل إلى عين الرائي. بدليل أن المرئي إن كان في ضوء يدركه الإنسان، وإن كان في ظلمة لا يدركه الإنسان، ولو كانت الأشعة تخرج من عين الإنسان لرأى الأشياء سواء أكانت في نور أم في ظلمة، وتعدلت كل النظريات في الضوء على يد العالم المسلم، وجاءت من بعد ذلك الصور الفوتوغرافية والسينما. إذن فالنور وسيلة إلى المرئيات.
ويترك الحق سبحانه وتعالى في أقضية الكون الحسية أدلة على الأقضية المعنوية؛ فالنور الحسيب الذي نراه إما ضوء الشمس وإما ضوء القمر، وإما ضوء المصباح، وإما غير ذلك، وهذا ما يجعل الإنسان يرى الأشياء، ومعنى رؤية الإنسان للأشياء أن يتعامل معها تعاملاً نفعياً غير ضار. ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حين يغيب النور الطبيعي- نور الشمس- وعندما نضيء مصابيحنا نرى الأشياء ونتفاعل معها ولا نحطمها ولا تحطمنا، وكل واحد منا يأخذ من النور على قدر إمكاناته. إذن كل واحد يضيء المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي على حسب استطاعته، فإذا ظهرت الشمس أطفأنا جميعاً مصابيحنا؛ هذا دليل من أدلة الكون الحسيّة الملموسة لنأخذ منها دليلاً على أن الله إن فعل لقيمنا نورا فلا نأتي بقيم من عندنا، مادامت قيمُهُ موجودة.
ويوضح الله أن الإنسان بدون قيم هو ميت متحرك، ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية. ويوضح سبحانه لكل إنسان: احرص على الحياة الثانية الخالدة التي لا تنتهي وذلك لا يتأتى الا اتباع المنهج، وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في هذا الوجود لأنه إن كانت هذه هي غاية الحياة لما أحس الإنسان بالسعادة؛ لأنه لو كانت الدنيا هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا جميعاً واحداً وأعمارنا واحدة، وحالاتنا واحدة، والاختلاف فيها طولاً وقصراً وحالاً دليل على أنها ليست الغاية؛ لأن غاية المتساوي لابد أن تكون متساوية.
إذن فقول الله هو القول الفصل: {وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان..} [العنكبوت: 64].
فهذه هي الحياة التي لا تضيع منك ولا تضيع منها، ولا يفوتك خيرها ولا تفوته. إذن فالذي يحيا الحياة الحسية الأولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحرك. {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ} [الأنعام: 122].
أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونوراً يمشي به، ولا يحطِّم ولا يتحطم.
أما من يقول: إن الحياة بمعناها الدنيوي، لا تختلف عن الحياة في ضوء الإِيمان، لمثل هذا نقول: لا، ليس بينهما تساوٍ فهما مختلفان بدليل ان الحق يقول: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال 24].
فسبحانه يخاطبهم، وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي، لكنه سبحانه أنزل لرسوله المنهج الذي يحيا به المؤمن حياة راقية، وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى أعطى ومنح الروح الأولى التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا، إنّه أعطاها المؤمن والكافر. ثم يأتي بروح ثانية تعطي حياة أبدية. ولذلك سمّي منهج الله لخلقه روحاً: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52].
فالمنهج يعطي حياة خالدة.
إذن فقوله الحق: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} أي أَوَ من كان ضالاً فهديناه، أو من كان كافراً فجعلناه مؤمناً. ولنلحظ أن فيه (ميْتاً) بالتخفيف، وفيه ميّت بالتشديد. والميّت هو من يكون مآله الموت وإن كان حيًّا، فكل منا ميّت وإن كان حيَّا. ولكن الميْت هو من مات بالفعل وسلبت وأزهقت روحه. ولذلك يخاطب الحق نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول له:(إنك ميّت).
أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيًّا الآن. لأن كٌلاًّ من مستمر في الحياة إلى أن يتلبس بصفة الفناء، ويقول الحق: (فأحييناه) أي بالمنهج الذي يعطيه حياة ثانية، ولذلك سمّي القرآن روحاً، وسمّي من نزل بالقرآن روحاً أيضاً.
{وجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس} ولماذا يمشي به في الناس فقط، وليس بين كل الأشياء؟؛ لأن الأشياء الأخرى من الممكن أن تحتاط أنت منها، ولكن كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب لأنهم أصحاب أغيار. ويتابع الحق: {كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} وهذا تساؤل جوابه: لا، أي ليس كل منهما مساويا للآخر، مثلما نقول: هل يستوي الأعمى والبصير؟. والفطرة هنا تقول: لا، مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور، أو الظل والحرور، وهنا يَأْمَنُنَا الله على الجواب؛ لأنه سبحانه- يعلم الأمر إذا طرح السؤال كسؤال وكاستفهام فلن نجد إلا جواباً واحداً هو ما يريد الحق أن يقوله خبراً.
ويذيل الحق الآية: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].
والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لأن ينفعلوا للتزيين، ولم يحمهم الحق بالعصمة في اختيارهم؛ لأنه سبحانه قد ترك الاختيار حرًّا للإنسان: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].
ويقول الحق من بعد ذلك: {وكذلك جَعَلْنَا فِي..}.


{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(123)}
وقول الحق سبحانه: {وكذلك} تدل على أن شيئاً شبِّه بشيء، فكما وُجد في مكة من يناصبك العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى الله، ويصدّ عن سبيل الحق؛ إن تلك قضية لست فيها بدعاً من الرسل؛ لأن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب الإيمان، و(كذلك) أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة، فلم تكن بدعاً من الرسل. وحيث إنك لم تكن بدعاً من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو العزم من الرسل. وأنت أولى منهم بالصبر؛ لأن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله، فكل رسول إنما جاء لأمة محدودة ليعالج داءً محدوداً في زمان محدود. وأنت قد جئت للأمر العام زماناً ومكاناً إلى أن تقوم الساعة، فلابد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي خصك الله بها. {وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123].
والإجرام هو مأخوذ من مادة (الجيم) و(الراء) و(الميم)، الجرْم والجُرْم والجريمة. فيها معنى القطع. و(مجرميها) جمع مجرم، ومجرم من أجرم، وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة، ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه، فهو يعزل نفسه لا لمصلحة لأحد إلا لمصلحته هو، فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي، وجعل كل شيء لنفسه، ولم يجعل نفسه لأحد؛ لأنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك.
إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح اقداماً يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير مجتمعه؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل؛ لكي لا يشعر أن هناك واحداً أحسن منه. {.. لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123].
والمكر- كما نعرف- مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر:
وضعيفة فإذا أصابت فرصة *** قتلت كذلك قدرة الضعفاء
والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من الا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.
إذن فلا يمكر الا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفَّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم. وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16].
وهذه الآية فيها اشكال، وقامت بسببها معركة بين العلماء؛ فنجد منهم من يقول: وكيف يأمر الله أناساً بالفسق؟. وحاولوا أن يجدوا تأويلا لذلك فقالوا: إن الحق قد قسر وأجبر أكابر هؤلاء الناس على الفسق. والجانب الثاني من العلماء قالوا: لا، إن الحق لا يقسر البشر على الفسق، بل على الإنسان حين يقرأ كلمة أمر الله في المنهج فلابد أن يعرف أن هذا الأمر عرضة لأن يطاع وعرضة لأن يعصى؛ لأن المأمور- وهو المكلف- صالح أن يفعل، وصالح الا يفعل، وأن الآمر قد أمر بشيء، والمأمور له حق الاختيار؛ وبذلك تجد أكابر القوم إنما استقبلوا أمر الله بالعصيان؛ لأن الحق هو القائل: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله..} [البينة: 5].
والفسق- إذن- مترتب على اختيار المأمور.
وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى: (أمر الله) نجد أن أمر الله يتمثل في التكوينات الطبيعية الكونية ولا يوجد لأحد قدرة على مخالفة الله في ذلك، فهو القائل: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.
ويتمثل أيضاً أمر الله في التشريعات، وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين الطاعة أو العصيان، وسبحانه القائل عن الأمر بالتشريع: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله}.
وحين يقول الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا}.
فسبحانه لا يهلك هذه القرية ظلماً، وإنما يرسل إليها المنهج، فإن أطاعوا فأهلاً وسهلاً، وإن عصوا فلابد لهم من العقاب بالدمار.
وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على الأمر من الله لم يلتفتوا إلى أن ورود الأمر في القرآن الكريم جاء على لونين: أولا: أمر التكوين بالقهريات فلا يستطيع المأمور أن يتخلف عنه، ويمثل الأمر القهري قوله الحق: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82].
فالأمر جاهز في عالم الأزل ليبرز حين يشاء الحق. والأمر الثاني: هو الأمر التشريعي وهو صالح لأن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي، وفي هذا الإِطار نفهم قوله الحق: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء: 16].
فلا تقل: إن الله يأمر بالفسق؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لأنه سبحانه لا يأمر بالفحشاء. بل جاء الأمر لكل البشر أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، لكن كبار أهل هذه القرية أخذوا البديل للطاعة وهو الفسق والمعصية، فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم؟، هو سبحانه يدمرهم تدميرا فإن كان في الكونيات فلا أحد من خلق الله مكلف في الكونيات، إنما أمره الثاني في اتباع المنهج فلنا أن نفهم أنه الاختيار.
وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الآية لتلتقي مع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: أي وإذا أردنا أن نهلك قرية أنزلنا منهجاً فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج الله فحق عليها القول فدمرناها تدميرا. وكذلك- أيضاً- نفهم قوله الحق: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} لأن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئاً من طريق ملتوٍ لأنه ضعيف لا يمكن أن يواجه الحقائق، وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة، وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة لذلك يلتوي. ولمثل هذا الماكر نقول: أنت تريد أن تحقق لنفسك خيراً عاجلاً وشهوة موقوتة، ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا الأمر بالنسبة لك. وكذلك عقوبتك على أنك أضللت الآخرين لرأيت كيف يأتي الشر. {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123].
أي لا يعلمون، لأنهم لا يوازنون الأمور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ...}.

35 | 36 | 37 | 38 | 39 | 40 | 41 | 42